خطبة بعنوان: السراج الوهاج في الحكمة من الإسراء والمعراج، للدكتور خالد بدير
لتحميل الخطبة أضغط هنـــــــا
خطبة بعنوان: السراج الوهاج في الحكمة من الإسراء والمعراج
عناصر الخطبة:
الحكمة الأولى: الحكمة من الإسراء من المسجد الحرام إلى بيت المقدس:
الحكمة الثانية: الحكمة من فرضية الصلاة في السماء دون بقية العبادات!!
الحكمة الثالثة: الحكمة من المعراج رؤية الحقائق الغيبية:
المقدمة: أما بعد:
الحكمة الأولى: الحكمة من الإسراء من المسجد الحرام إلى بيت المقدس:
قد يقول قائل: لماذا أسري بالنبي – صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ليعرج به من هناك ولم يعرج به من المسجد الحرام مباشرة؟!!
أقول: ذلك لحكم كثيرة وجليلة تتلخص فيما يلي:
1- وهذه حكمة عامة : أن الإسراء تكريم وتسلية وتسرية للنبي –صلى الله عليه وسلم- من الله تعالى على ما عانى منه من مشقة وتعب ومصاعب، وأيضاً بسبب فقدان عمه أبو طالب وزوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وأيضاً هناك سبب آخر وهو عندما ذهب إلى أهل الطائف يطلب منهم الوقوف بجانبه وأن يدخلوا الإسلام تلقى منهم أشد أنواع العذاب حتى سالت الدماء من قدمه ثم أوى إلى الشجرة ودعا ربه دعائه المعروف:”اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبال ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”. فنزل جبريل عليه قائلاً: إذا كان أهل مكة آذوك وطردوك فإن رب البرية لزيارته يدعوك.
2- أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كَانَ عروجه إِلَى السماء من مكة لما حصل ذلك، لأنهم لا علم لهم بالعالم العلوي، إذ لا يمكن إطلاعهم عَلَى ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته، لذلك قال لقريش: ” وآية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم مررت بعير بنى فلان، فوجدت القوم نياماً ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشئ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء. قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم وسألوهم عن الإناء وعن البعير، فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه، وذكر عن إسماعيل السدي، أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عز وجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم. قال: فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون.”(البيهيقى، وسيرة ابن كثير)
3- أن الإسراء تمهيد للتصديق بالمعراج: فعندما يكون لديك أمران: أحدهما مستحيل في نظرك، ثُمَّ يأتي بعده ما هو أكثر استحالة منه، فإن هذا يدفعك إِلَى أنك تكاد أن توافق بالأمر البسيط، وتقول: ما دام أن فيها كذا نسلم بهذا الأقل والأهون، وهذا أمر يمكن أن يجادل فيه، فلهذا جاءوا يجادلون كيف ذهبت؟ فلما طلبوا منه وصف المسجد أظهر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمامه المسجد، فأخذ يراه رأي العين ويصفه لهم حتى أيقنوا وصدقوا أنه قد أسري به، وكان ذلك تصديقاً قلبياً وليس تصديقاً إيمانياً، ووقر ذلك في قلوبهم، كما قال الله تعالى:{ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] فجحدوه بعد أن وقر في قلوبهم.
4- الترابط بين مهبط الرسالات: فبيت المقدس هو مهبط النبوة قبل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنبياء بني إسرائيل بعثوا في تلك الأرض المقدسة، وهناك القبلة الأولى التي كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يستقبلونها، إذاً فهناك ربط بين هذا النبي الجديد وبيئته وبلدته الجديدة -النبوة الخاتمة- وبين مهبط النبوة السابقة لها أيضاً، وفيه إشعار بأن هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكمِّل ومتمِّمٌ لرسالات الأَنْبِيَاء قبله، فهو خاتمهم، ولم يأتِ في باب التوحيد والإيمان بجديد عما جاءوا به في أصَلِ القضية، وإنما دعا إِلَى ما دعوا إليه.
فالنبوة حصرت في ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ كانت النبوة في فرع إسحاق فنقلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فرع إسماعيل، وكلاهما أبناء إبراهيم الخليل عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم.
5- إمامة النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين السابقين في بيت المقدس، إشارةٌ إلى مكانة النبي عند ربه؛ حيث جعله إمامًا لجميع الأنبياء والمرسلين، وإشارة إلى وحدة الرسالات السابقة في المصدر والهدف والغاية، فمصدرها جميعًا من الله، وهدفها تعبيد الناس إلى الله، فالأنبياء جميعًا إخوة فيما بينهم، كل واحد يؤدي دوره، ويأتي من بعده ليكمل الرسالة، وفي الحديث: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأتمها إلا موضع لبنة؛ فكان الناس يقولون: لولا هذه اللبنة، فأنا هذه اللبنة”(البخاري).
6- أن في ذلك إشارةً إلى انتقال القيادة والريادة من أمة اليهود، الذين عاثوا في الأرض فسادًا، فلم يعودوا يصلحون لقيادة البشرية إلى أمة جديدة، صاحبة رسالة وهداية؛ هي أمة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).
7- أن أرض فلسطين وما حولها أرض مباركة، بركة حسية ومعنوية، فيها بيت المقدس؛ أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش هناك أغلب الأنبياء، ودفن هناك إبراهيم ولوط ويعقوب ويحيى وزكريا عليهم السلام، ولقد مدحها الله في القرآن الكريم في خمسة مواضع؛ وهي أرض إسلامية صرفة، ليست ملكًا لحاكم ولا لشعب، وإنما هي ملك للإسلام والمسلمين في كل مكان، وهذا يبيِّن واجبنا نحوها ونحو أهلها والمقدسات التي على أرضها، وفي الحديث: “لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك” (البخاري). وفي رواية: (قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: “في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. وكل البلاد الإسلامية التي تحيط بها من أكناف بيت المقدس.
الحكمة الثانية: الحكمة من فرضية الصلاة في السماء دون بقية العبادات!!
إن الصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضت ليلة الإسراء والمعراج في السماء السابعة وبدون واسطة, فلماذا فرضت العبادات كلها عن طريق الوحي على وجه الأرض دون الصلاة، أخذ الله نبيه هناك إلى مكان لم يصل إليه أحد فتفرض هناك خاصة؟!!
والجواب عن ذلك أقول: إن الإنسان يتكون من قسمين: جسد وروح، فالجسد خلق من طين وغذاؤه من طين ومرجعه للطين، والروح مخلوقة من روح الله { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 29)، وغذاؤها غذاءٌ روحي هو العبادة والصلاة، ومرجعها إلى الله كما في الحديث أن ملك الموت وأعوانه يصعدون بها إلى الله حين قبض الروح من العبد مباشرة، فناسب أن يكون غذاؤها من المكان الذي خلقت منه – كالجسد وغذاؤه – ففرضت هناك، فأصبحت معراجاً روحياً بينك وبين الله، ففي صحيح مسلم ” قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ”
وثمة حكمة أخرى من فرضية الصلاة في السماء: أن الصلاة هي العبادة الوحيدة التي يشترك فيها أهل السماء مع أهل الأرض، لأن الملائكة لا تزكي لأنها لا تملك المال، ولا تأكل ولا تشرب حتى تصوم، ولا تتناكح ولا تتناسل حتى تؤمر بصلة الأرحام وضوابط المعاملات، وإنما هي أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل بأشكال حسنة، مفطورون على العبادة، منهم الراكع لا يرفع رأسه، ومنهم الساجد لا يرفع رأسه، ومنهم المسبح ومنهم القائم، وكرم الله الإنسان لأنه جمع في صلاته أنواع صلوات الملائكة من قيام وركوع وسجود وتسبيح وغيرها، فالملائكة يسبِّحون اللَّيل والنَّهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حقَّ عبادتك. وإذا كانت الملائكة تقول ذلك حياءً من التقصير- مع أن الراكع والساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة – فماذا نقول نحن لله؟! لذلك ناسب أن تفرض الصلاة في السماء لاشتراك أهل السماء مع الأرض فيها.
عباد الله: إن الغذاء المادي هو قوام الجسد؛ وعبادة الله تعالى هي قوام الروح، وهي الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان وكرمه من بين سائر المخلوقات، ومظاهر هذا التكريم أن الله جمع فيه صفات العالم العلوي ( الملائكة ) والتي تتمثل في الجانب الروحي، وصفات العالم السفلي ( الحيوانات والبهائم ) والتي تتمثل في الجانب المادي الشهواني، فإذا اهتم الإنسان بالجانب الروحي وتغلب على شهواته وقمعها وهذبها؛ صعد بروحه إلى أعلى حتى يصل إلى درجة الملائكة، لأن هناك قاعدة عامة عند العلماء تقول: وجود الشهوة مع قمعها أفضل من عدم وجودها، فكلما كثرت الشهوات والفتن وتغلب العبد عليها كلما كان أكثر أجراً عند الله، يدل على ذلك قوله r: “العبادة في الهرج كهجرة إليَّ” [مسلم]
قال الإمام النووي: ” المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس ، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ، ويشتغلون عنها ، ولا يتفرغ لها إلا أفراد .”
فالذي يعبد الله في زمان الفتن كالزمان الذي نعيش فيه الآن، يأخذ أجور الناس جميعًا.
لذلك فإن المعصية تصير كبيرة من الشيخ الكبير، كما أن الطاعة أجرها عظيم من الشاب الفتيِّ. فقد جاء في الأثر الإلهي: ” أحب ثلاثاً وحبي لثلاث أشد ، أحب الطائعين وحبي للشاب الطائع أشد، وأحب المتواضعين وحبي للغني المتواضع أشد، وأحب الكرماء وحبي للفقير الكريم أشد ، وأبغض ثلاثاً وبغضي لثلاث أشد ، أبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد ، وأبغض المتكبرين وبغضي للفقير المتكبر أشد ، وأبغض البخلاء وبغضي للغني البخيل أشد “. أما إذا أهمل الجانب الروحي واهتم بغذاء الجانب المادي من ملبس ومركب وغذاء وشراب وغيرها من ملذات الحياة كحال كثير ممن الناس الذين لا يعرفون للمسجد طريقاً ولا للحسنات سبيلاً، فإنه يهبط إلى أسفل حتى يصل إلى درجة البهائم.قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)، إن الحياة بدون عبادة حياة خاوية الروح، مظلمة الفكر، منتنة الطبع، متعفنة الفطرة، مرة المذاق، ولا أدل على ذلك من حالات الناس في تلك المجتمعات التي فقدت السلطان الروحي؛ حيث يندفع الكثير منهم إلى الانتحار نتيجة القلق النفسي، فإن عبادة الله سبحانه وتعالى بها يحفظ التوازن بين مطالب الجسم ورغائب الروح، وبين دوافع الغرائز ودواعي الضمائر، وبين تطلعات العقل وأشواق القلب، وهي مدد ووقود لجذوة العقيدة التي تنير جوانب النفس. ولذلك ” كان النبي r إذا حزبه أمر صلى ” ( أبو داود )، وكلما أحس r بضيق أو هَمٍّ يقول: ” أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها “( أبو داود )، فكلما بعدتَّ عن العبادة والطاعة كنتَ في ضيق وغمٍّ وقلق نفسي وتوتر وضنك، والشفاء والعلاج في صلتك بالله، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}( طه: 124 – 126)
وقد وصف الله حال من لا يعبده بالبهائم، بل هو أضل لأن البهائم تسبح الله وتسجد له؛ فتكون أعلى مرتبة منه:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(الإسراء:44)
وقد أوقفتني آية كريمة في سورة الحج تبين أن الكون بما فيه يسجد لله لا يتخلف لحظة إلا الإنسان:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}( الحج : 18) ، فمن المعروف في اللغة أن المعطوف يوافق المعطوف عليه في أربعة من عشرة، والله – U – عطف جميع المخلوقات بــ ” ال ” التي تفيد عموم وشمول جنس كل نوع من هذه المخلوقات – من شمس وقمر ونجوم وجبال وشجر ودواب- وجاء عند الإنسان فعدل عن سياق العطف فقال:{وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} ليشير إلى أن جميع المخلوقات لا تتخلف لحظة عن التسبيح والسجود والعبادة, وأن الإنسان الوحيد الذي لم يخلق إلا للعبادة هو الذي يتخلف!!!! فالصلاة معراج للأرواح والنفوس، خمس مرات كل يوم في الأداء، وخمسون في الأجر والثواب عند الله تعالى، وإشارة إلى أن المسلم يسمو بنفسه وروحه فوق الشهوات والشبهات، ودائمًا يتطلع إلى المعالي، ويتعلَّق بالمثل الأعلى في كل شيء من قيم الحياة، فلا يرضى بالدون أو المؤخرة.
الحكمة الثالثة: الحكمة من المعراج رؤية الحقائق الغيبية:
فنحن نعلم أن الإيمان بالغيب درجات ثلاثة، علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، فلو قلت لك هناك موت وبعث وجنة ونار، فهذا علم، فلو رأيت ذلك بعينيك فهذا عين اليقين، فلو جربته وأكلت من الجنة مثلاً فهذا حق اليقين، وكلما ارتقيت من درجة إلى أخرى يزداد يقينك وإيمانك بالله، فليس من رأي وجرّب كمن علم وسمع. والدرجات الثلاثة وردت في القرآن الكريم قال تعالى:{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} (التكاثر) ، فهاتان درجتان، والثالثة في قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}(الواقعة:95) والضمير عائد على الموت وخروج الروح، فهو حق أي أن الكل سيجربه حقاً ويموت. فالله أكرم نبيه في المعراج برؤية الغيبيات لهذه الحكمة، وقد ذكر ذلك في آيات الإسراء فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء : 1)، وفي آيات المعراج قال:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(النجم: 18)، وهذا الأمر ليس قاصراً على نبينا فقط، بل شمل أنبياء كثيرين قبله، فهذا موسى قال الله له:{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} (طه) فأراه الآيات أولاً تثبيتاً له ثم عقبها بالذهاب إلى فرعون. وهذا إبراهيم عليه السلام قال الله فيه:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 260)، جاء في تفسير ابن كثير “عن ابن عباس قال: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن وخلط بعضهن في ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة جبال . وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل، أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم، عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته؛ ولهذا قال:{ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب في قوله: { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها” أ.ه
وكأن الله يقول لسيدنا إبراهيم نحن أكرم منك يا إبراهيم، فأنت طلبت الرؤيا-الدرجة الثانية عين اليقين- ونحن جعلناك جربت ذلك بنفسك فأعطيناك الدرجة الثالثة، لذلك ليس من علم بالله كمن رآه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :” قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْر،ِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ عز وجل -وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ- مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُون: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَة،ً قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنْ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا، كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ”( البخاري)، بل إن الصحابة يزداد يقينهم وثباتهم وإيمانهم برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم فما بالك برؤية الله؟!! فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ:” لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟! قَالَ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ”( مسلم)، هذا فضلا عن أن المشاهد التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج؛ إشارات إلى تحذير الأمة من هذه الانحرافات؛ حيث كانت العقوبات الشديدة المنفرة، فيحذِّر النبي الأمة من هذه الآفات مثل الربا، والزنا، وأكل مال اليتيم؛ لأنها أمراض اجتماعية تدمِّر الأفراد والمجتمع.
فالربا: يجعل الغني يمص دم الفقير، ويزداد بمال الفقير غنًى، ويزداد الفقير فقرًا وضعفًا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: 275). والزنا: يخلط الأنساب، ويفتح أبواب الشر والفساد، وينشر الأمراض والأوباء، قال تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32)} (الإسراء).
وأكل مال اليتيم جريمة ظالمة، تجعل من الحارس لصًّا، ومن الراعي ذئبًا، فمن أجل ذلك صوره القرآن بأنه يأكل نارًا في بطنه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} (النساء).
رزقنا الله وإياكم الرزق الحلال وبارك لنا فيه،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي